لعله من الجدل العقيم الخوض في من الأشمل اصطلاحا أن يأتي ، الإرهاب تحت الفساد ، أم الفساد تحت الإرهاب ، ولكن الخلاصة أننا نتفق كليا على أنهما وجهان لعملة واحدة تقض مضاجعنا وتؤثر على استقرارنا وتنمية الأجيال من بعدنا ، تقفان على جبهة واحدة ضد تعبئة الهمم والشباب نحو التنمية والبناء وانصرافهم عن النجاح والحضارة إلى الدمار وإهلاك الحرث والنسل.
لا شك في أن آنية مكافحة الإرهاب تملك الأولوية ولكنها لا تقصي أهمية تجفيف منابع الفساد حيث أنها تصب في نفس الرافد الذي يرتوي من هدم القيم المعتبرة للبناء والتنمية والإعمار. والعبرة بالإجماع في المجتمعات المتحضرة على تصنيف ونبذ الفساد لما له من أضرار تنسف العزائم والهمم ومبدأ الجدارة بنفس الوزن والقيمة التي تنبذ الإرهاب لما له من أضرار تنسف وتهدم ماتبنيه العزائم والهمم ومبدأ الجدارة ، ومن الواضح بدون لبس ولا غموض الارتباط بينهما بشكل بديهي ومسلم به ذهنيا في العقل الجمعي والمنطق الفكري المعتمد في التخطيط الاستراتيجي والعملي.
لعل من أول الأمثلة على ذلك التراخي في تحمل المسئولية الاجتماعية التي تلحق بكل منا في ترقية مفهوم الجدارة والاستحقاق وتصنيف الطمع والجشع ، بل على العكس فإننا نقوم بتغيير المسميات ونسمي الجشع طموح ونسمي الحسد حقوق ، ونشجع الجميع دون استثناء وبدون وعي للتطلع نحو التمتع بمستويات رفاهية عالية دون النظر لمبدأ الاستحقاق وطريقة الوصول للهدف ومبدأ الاختيار ، لأننا نزدري مستويات وطابع الحياة المتواضع والمتوسط ونزري بالجهد والكفاح ولا نقدره ، حتى أصبح حالنا "عبد الدينار".
لا حصر لأمثلة الفساد الذي روجنا له دون وعي وقصد ، فالتستر والإتجار غير المشروع هو من مظاهر الفساد التي نتجاوزها كل يوم رغم ما وصل بنا الحال من تسبب ذلك في تدني المعايير وإنكار المنكر ، وتدني الأجور وتدني الإنتاجية والأداء على كافة الصعد. هل المشكلة في طمع المتسترين للإثراء غير المشروع؟ أم ثغرات الأنظمة والرقابة؟ أم مساهمتنا اجتماعيا في تبني نموذج حياة الثراء والرفاهية؟ أم تقصير أطراف معينة في لعب الدور والدور الرافد؟
ما تركه تفشي الفساد بأشكاله المختلفة من آثار كبيرة تساهم بشكل ضاغط على تدني مستويات القيم والمباديء والمحاسبة بدء من الأداء الأبوي في الأسرة مرورا بالدور الوظيفي والاجتماعي وشاملا لكل الواجبات الوطنية على الأفراد باختلاف مستويات التمثيل لشخصياتهم الاعتبارية والأدوار المناطة بهم ، وهو إنذار خطر لما يتطور بشكل خفي ليهدم ما بناه أباءنا بالدم والعرق من نهضة وتعمير لهذا الوطن.
أتساءل كثيرا عن حجم مساهماتنا في رسم مسارات وسلوكيات النجاح التي تكرس احترام القانون والأنظمة والجهد الفردي في بناء الوطن والمسئولية عن ذلك والمحاسبة عليها ، والنظر للواجبات باعتبار موازي للحقوق وكل بحسب موقعه ، أتساءل عن مبدأ تقدير وتعزيز الجهد والكفاح في الحياة فلا أرى إلا أنانية مطبقة وجشع غادر يغذيه الحسد وتهميش للواجبات والمباديء التي أقرتها 8 آلاف عام من التاريخ البشري للحضارة.
هل نحن بحاجة ماسة لتوضيح هذه المعاني في مفردات مادة التربية الوطنية في المناهج الدراسية المدرسية؟ هل سنتمكن من إبراز الدور الوطني وتوظيفه في قيم البقاء والاستقرار والأمن الاجتماعي وتطور نظرية الأخلاق كحلقة متصلة في سلسلة الأمن الاجتماعي والأمن الفكري؟
نحن نسير بشكل مغاير ومعاكس لمسارات الترقي والتحضر عندما نهمل ملف الفساد ونهمل ملف الجدارة وتقدير الكفاح وتقدير اختلاف المستويات المعيشية والاختيارات في الحياة. أكاد أجزم بأن الجميع من شبابنا يتطلع لسكنى القصور وامتلاك السيارات الفارهة وقضاء العطلات في عواصم أوروبا ، وأنا لا أصادر هذا الحق في التطلع والطموح ولكن هل هذا ممكن لكافة المواطنين؟ وهل نحن سواء في الهمة والعزيمة والجدارة؟ أم نحن نسوق المجتمع وندفعه دفعا نحو تبني الفساد وعبادة الدينار؟ ثم ما هو مصير من لم يتمكن من تحقيق ذلك؟ هل له من التقدير على جهده وكفاحه أي نصيب؟ ما مصير من يريد مسكنا يؤيه وسيارة متواضعة وصيفا في الأرياف؟ هل احترمنا اجتماعيا اختياراته؟ هل نقدر ذلك أم نحتقره؟
لماذا انفجرت فجأة مشكلة الإسكان ؟ هل اعترفنا بأن لدينا مشكلة تتفاقم يوما بعد يوم في موضوع السكن؟ ماهو مقدار الارتباط بينها وبين مسارات النجاح والفساد؟ هل عكفنا على إيجاد الحلول العاجلة لها؟ والحلول المستقبلية لها؟ والحلول الوقائية من تكرارها؟ هل سألنا أنفسنا ماهو حجم مساهمة أصحاب الثراء منا في تفاقم هذه المشكلات؟ هل أصبحت أنانيتنا كرؤوس أموال تتضاعف ثرواتنا من خيرات الوطن ونلقي باللائمة على الدولة في تحمل تحديات ومشكلات مشاريع التنمية وكأنما تضاعفت أموالنا من استثمارات في كوكب آخر وليست من خير هذا الوطن ؟ فأين شكر الله وأين شكر الوطن والوفاء له ولأبنائه ؟ هل تساءلنا عن الامتيازات التي نحظى بها هل كانت حق إلهي منح لنا؟ أم أنها مترافقة مع واجبات ومسئوليات يعد التخلي عنها سلوك لا يليق وعبث لا يغتفر؟ ألم ينزل الله على قارون عقابا في هذا بالذات؟ هل نحن بانتظار أن تسن القوانين وتكرس الأعراف حتى تنهانا عن الأنانية والقارونية فنصبح مجبرين غير مختارين ؟
هل دلس علينا الشيطان حتى غابت عنا هذه البديهيات ؟ وهل أزرى بنا الوهم في " إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي" إلى هذا الوضع أن ندافع الوهم بتبيان المسلمات الأدبية والقانونية والوطنية والدينية؟ ألا يكفينا القرآن الكريم الذي غلظ في باب المسئولية الاجتماعية في سياق قصة قارون "إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ".
أين الأوقاف والمسئولية الاجتماعية؟ وننظر للمساهمات اليتيمة من هنا أو هناك ونعظمها كأنما هي فضل أو كرم ، في حين أنها واجب مستحق وحق مستوجب ، أم أن هذا أمر على الدولة أن تسطره كبند إلزامي ظاهر في العقود لتوضيح نطاق المصلحة الوطنية والمسئولية الدينية والمنطق الاجتماعي؟؟
نتشدق بالمسئولية الاجتماعية كأنما هي فضل ومنة على الدولة وعلى المجتمع ونتناسى كسر الرقاب كأنما امتلاك الثروة وحبسها عن الناس هو الفضل وهو الفخر وهو رمز الشرف والسمو ، كيف تنقلب الموازين بحيث يكرم المسيء المقصر، ويهمش صاحب الشرف ويلام على شرفه وعفافه ، ألا نعتبر من قوله تعالى " وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ" ، ألا نهمّ ونبادر ونتسابق على القيام بالواجب الذي لما تركناه أصابنا في أكبادنا أم ننتظر حتى يصيبنا في أكثر من ذلك ، هل ننتظر خسفا أم أننا لانعتبر مما أصاب شبابنا وبناتنا من انصراف عن المعالي والعفة والسمو وتوجههم نحو السعي وراء المظاهر الخادعة والتفوق الكاذب والتفاخر بما لا فخر فيه ، حتى تردى إنتاجنا الاجتماعي والعلمي والثقافي والأدبي والفني ؟ أليست عبرة كالخسف؟ أم على قلوبهم أكنة أن يفقهوه؟
No comments:
Post a Comment