Thursday 12 December 2013

هدم الفساد أم هدم المؤسسة

نعيش حالة من دعاية الشعارات وتزوير المصطلحات حتى اختلط على الناس اليقين بالشك ، والبديهي بالخرافة ، فترى البعض يناصر فئة ما لما يتمتعون به من خطاب حماسي يلوي أعناق النصوص الشرعية ويتلاعب بمقاربات خاطئة ومنطق أعوج ويتحايل بأماني الناس وأحلامهم ويغني على جراحهم مآسيهم  ليقلب المفاهيم ويشوه الحقيقة ويوهم الناس بالوعود الكاذبة في الدنيا والآخرة ، لا يروعي مخافة الله ولا مايقترف في حق البلاد والعباد من آثام وتعطيل لحياتهم وشغلهم بما لا طائل منه.

وهذا مصاب جلل يغشى العالم العربي والإسلامي اليوم وآخذ في الانتشار والاستشراء كالنار في الحطب ، وحقيقة تفرض نفسها رغم قباحتها وسوءها ، أخذت مكانها وغرست فتنتها ، فهذا لفيف من السنّة والشيعة والدروز والموارنة والأرمن والأرثوذكس في لبنان يناصرون حزب الله اللبناني ويتبنون مواقفه ، يعادون من يعاديه ويصالحون من يصالحه ساعين وراء شعار يسمى (المقاومة) تارة و(الممانعة) تارة أخرى ، خَدع به الحزب الناس واستحوذ على السلاح بتواطؤ النظام السوري المجرم الذي احتل لبنان حتى قريب وعاث فيها فسادا وخرابا في الأموال والأنفس والأعراض بمعاونة حزب الله وأعوانه الذي وجدوا في الدعم السوري دعاية جديدة لهم يجددون به الدعوة لتجديد البيعة وتسليم العقول ، والاشتراك في جريمة تعطيل مؤسسات الدولة في لبنان وإرهاب الناس ، والآن يمارسون قتل الشعب السوري الأعزل وتخريب وطنه ومقدراته ، وهذا شبيه من حيث الطبيعة لما تقوم به جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس من حراك ميداني يومي لكسر هيبة الدولة وهدم أركان المؤسسة ، استلبوا عقول الشباب والفتيات والراشدين والقصّر وقدموهم قرابين ليضحوا بهم في السجون ، وقتلى في المواجهات مع الجهات الأمنية.

ترى كيف تمت هذه البرمجة الفكرية للعقول البريئة من كافة الطوائف ؟ كيف لعاقل أن يقف مع مجرم ينتهك حرمة (مؤسسة الدولة) المقصود بها (الكيان الوطني وليس النظام الحاكم) وكياناتها وكوادر الوظائف والخدمات من مستشفيات ومدارس وأجور وموظفين وخدمات بلدية وأمنية؟

هذا هو الأثر الذي يخلقه (التشويش) باستخدام عبارات ومفردات ومصطلحات الحق والعدالة والحرية والحقوق في سياقات ملتوية لتخدم الشر والفساد والقتل والأسر الفكري والاستحواذ على الثروات الوطنية والمغالبة بالسلاح المادي وغيره من الأسلحة. 

هذا (التشويش) المركز والمعقد جدا يستخدمه أساطين الفساد وأربابه يتكسبون به لتلميع صورتهم وتشويه صورة أصحاب الحق الأبرياء المعتدى على حقوقهم ، فيبدو (المعتدي بريئا والضحية مجرما) ، ويتم تغذية هذا التشويش بشكل مستمر وتحويله من شكل إلى آخر حتى يصبح مسارا معتادا ونمط فكري رائج في التصنيف (والتنميط) تتعطل به منهجية التفكير وتعوق مبادرات الإصلاح ومشروعيتها ويقفز بالإنسان من تفكيك الفساد وحلول محاربة الفساد ، إلى الانخراط في التعبئة المضللة والدعاية الزائفة والدفاع عنها.

الإسلام السياسي السني والشيعي هو مولود من مواليد القرن العشرين يهدف إلى تهميش شركاء العقيدة والوطن وتخوينهم ، وتأليب الناس وتجنيد الأنصار ضدهم ، وعزل الأنصار عن مجتمعهم ومقاصد دينهم الجلية الوضوح وتجريدهم من انتمائهم البشري والوطني والعقلاني ، وبرمجة العقول بمعتقدات جديدة مخترعة تضع هؤلاء الفسدة المفسدين الضالين المضلين في مصاف الملائكة والأنبياء والأصفياء والصديقين والقديسين ، رغم الوضوح الظاهر في كذب الدعوى وفسادها وخطورتها على الفرد والمجتمع ، وعلى المنجز الذي حققته المجتمعات العربية بعد الحرب العالمية الأولى والثانية من استقلال هو الأول في التاريخ منذ الخلافة الراشدة ، رغم ما اعتراها من تسلط واستبداد وطغيان الأنظمة الحاكمة وطغيانها الذي أنتج (الربيع العربي) الذي وجد في أكذوبة (الإسلام السياسي) مبتغاه لانتهاز الفرصة التاريخية لاختطاف (الربيع العربي) وادعاء تحقيقه وإنجازه زورا وبهتانا للبدء في دورة جديدة من الطغيان والفرعنة والاستبداد والظلم .

لا شك أن هناك بيئة وسانحة تاريخية مهدت لتقبل البعض منا لهذه الشعارات الكاذبة والدعاية المزيفة للإسلام السياسي السني والشيعي ، وتتمثل في تطلعات الشعوب العربية والإسلامية وطموحاتها لتحقيق الذات وإثبات الهوية عقب قرون طويلة من استبداد المستعمر والمستبد ، مما سهل ارتداد وتراجع فكري عند العرب والمسلمين محوره التشكيك في الهوية وقيمة الذات وواقع التأخر الحضاري ، إضافة إلى انعتاق المسلمين من الصوفية السنية والشيعية ووقوعهم فريسة للتطرف السني والتطرف الصفوي ، مما سوغ للمسلم التصاقه بفقهاء وملالي (الإسلام السياسي) ومحاباتهم وتفضيل ضلالهم على قيمة المفكر المستقل البعيد عن العلوم الشرعية التي لا يحتاجها المستقلون في طرح التجديد والحداثة والرقي الفكري فهي ليست موضوعات شرعية بالأساس ، وأثر تأخر النضج الفكري عند المسلمين في إمكانية احتجازهم في أزمة ومأزق الهوية والدين وتعلقوا بها ولم يتمكنوا من تجاوزها ، والعبور نحو الثقة بأنفسهم وتاريخهم وحاضرهم الذي بقي معهم بعقيدة وشرع ممارس ، فأدى إلى المزيد من الالتصاق بأبواق الطرح الديني المستمر بشكل دائم في الخطاب والدعاية والتصنيف وتسويغ وتشريع الاعتداء على النفس والمال والأعمال العسكرية والحربية ، وهو ما احتاجه أرباب (الإسلام السياسي) السني والشيعي ليحفروا مكانتهم في العقول قبل القلوب ، تارة بشكل مباشر أو بشكل أداة يدفعها السياسي الفاسد المستبد صاحب السلطة لمقاومة الطرح الفكري بالمناظرة الفقهية ليضمن لنفسه الحياد وإبعاد النظر عنه والتهرب من المسئولية عن مآل الأمور.

من أمثلة (التنميط) مصطلح (الدولة العميقة) المستخدم للتشويش على مبادرات وفكر الإصلاحات ، فرغم أنه من الطبيعي أن يكون للدولة كادر كبير يمثل جسدها الذي يقوم بالخدمة المدنية والعسكرية بكافة أشكالها ، ويهدف حزب الله اللبناني والعراقي وجماعة الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية من هذا التنميط - تشريع إطالة الفترة الزمنية لنضالهم الوهمي ضد الحداثة والاعتدال والإنماء الفكري والحضاري ، ولممارسة العربدة والإجرام وأنشطة الشغب والتخريب لهدم (مؤسسة الدولة) ككل عبر القتل والتخريب والشغب والتحريض وليس عبر الوعي والثقافة والحوار والقنوات الرسمية والمطالبة السلمية التي تم تصنيفها على أنها فساد وكفر وضلال مع أنها ليست إلا أدوات اشتبه على الناس طبيعتها وقبلوا من (الإسلام السياسي) تصنيفها.

 مثال آخر للتنميط هو مصطلح (الانقلاب العسكري) المستخدم للتشويش على الدور البديهي والطبيعة النزيهة للجيوش الوطنية التي تحمي الكيان الوطني (المؤسسة) والتشكيك في شرعية دفاعهم عن الأصول الاستراتيجية للدولة وحماية (المؤسسة) من الانهيار والسقوط.

حمى الجيش المصري والجيش التونسي والجيش اليمني المؤسسة من الانهيار عندما انهار النظام ومنع الأنظمة الفاسدة من توريطه في الانخراط بحمايته أو التماهي معه ، وحافظ على كيان المؤسسة الوطني والكوادر الوظيفية ومقدرات ومنجزات الوطن المتعاقبة حتى لو كانت هزيلة ، وحمى الثروات الوطنية من التعدي والحدود من الاعتداء ، وسلم القيادة للسلطات المدنية بمجرد وصول مرشح رئاسي لسلطة الحكم بشكل سلس من أشكال نقل السلطة غير معهود في الوطن العربي.

قام الجيش المصري والتونسي (واليمني بفضل المبادرة الخليجية) بحفظ جسم الدولة وكيانها من العبث والتلاعب والضياع والفوضى (التي حدث مثلها في العراق وليبيا نظرا لانهيار المؤسسة) فهذه غاية وهدف الجيوش البديهية ، العراق وليبيا الآن هما دول تحت التأسيس بل قبل التأسيس إذا جاز لي التعبير ، وسوريا هي مشروع ليبوي جديد على الأغلب.

محاربة الفساد وفضح المفسدين لايرتبط أبدا بهدم الدولة ، والإصلاح عموما ليس مهمة سهلة ويسيرة بل هو جهد ذهني فوق المعتاد وعمل دؤوب مرهق وحوار صادق شفاف ، لكن ثماره مهمة جدا والتخلي عنه خسارة باهظة على الأفراد والمجتمعات والأوطان ، والتفريق بينهما ضرورة عقلية ولازمة منطقية لايمكن تجاوزها ولا المرور بها مرور الكرام.

المطالبة والاهتمام بدور الدولة في عملية الإصلاح لضمان الاستقرار للكيان وحفظ المقدرات والمنجزات من الخراب والهدم وتقديم مصلحة المؤسسة على مصالح الأفراد في حال التعارض ، هو واجب ديني ووطني وأخلاقي وأدبي وعقلاني بديهي ، ومؤسسة الدولة ليست هيئة ابتدائية تفتقد الموارد وتحتاج إلى دعم النافذين وأصحاب الأموال بل العكس فهي التي تملك الموارد والكوادر وتتمتع بالشرعية ، والإصلاحات تحتاج إلى وعي يحاصر الفكر الفاسد والمتمصلحين من بقاء الفساد سواء في جسم الدولة وكوادرها أو في السوق والقطاع الخاص من ملاك الامتيازات والاحتكارات ، ومن الطبيعي تحالف الطرفين (الذين في جسم الدولة والذين في خارجها) لتغذية (التشويش) وتنصيب (السقوف الزجاجية) التي تحمي بقاء الفساد وتناميه بشكل لائق ومقبول اجتماعيا يرتدي قناع مصلحة الوطن والمواطن والسخرية من الإصلاحات وتهميشها ، وهذان الطرفان هما على نفس القدر من خطورة أرباب (الإسلام السياسي) بل هما يتنافسان الخطورة ويتبارازان عليها.

اتهام النظام السياسي ومسئوليته عن الفساد ليست الحل حتى لو كانت تهمة ثابتة ، ليس لتبرئة النظم السياسية ولكن لعدم جدوى الاتهام في عملية صناعة الحل وإنجاز النتائج ،  فبخروج حسني مبارك وعلي صالح وصدام ومعمر القذافي من السلطة بقي الحال كما هو بل ازداد سوء لسبب بسيط جدا ، هو بقاء الامتيازات والاحتكارات ورؤوس أموال الفساد الذين يحرزون مكاسب جديدة وسيكون شركاء في بناء سلطة فاسدة جديدة .

الأولى تعزيز استقرار مؤسسة الدولة بالوعي الشعبي العقلاني والمنطقي والإنكار السلمي لمحاربة الفساد حتى يكون الفساد وكياناته هو العدو المشترك للدولة والشعب  ، ونبذ دعوى الإسلام السياسي أو تبعية الرأسمالية وتصنيف الفساد صغيرا كان أو عظيما.

الرياض 

No comments: